السبت، 2 مايو 2015

الغزو التجاري الأوربي للأسواق المغربية* * وآثاره على تطور بنيات الاقتصاد المغربي 1856- 1894* محمد حالي




موضوع البحث
يتناول هذا البحث, بعض الجوانب من الغزو التجاري الأوربي الذي تعرض له المغرب
خلال القرن التاسع عشر, في علاقة مع التوسع الرأسمالي الأوربي, بحثا عن الأسواق
لترويج فائض الإنتاج, وتوفير الخامات الضرورية للصناعة الأوربية. كما يتعرض
أيضا بالدراسة والتحليل لانعكاسات الغزو التجاري الأوربي, على البنيات
الاقتصادية للمجتمع المغربي في الفترة الممتدة مابين توقيع المعاهدة المغربية
الإنجليزية سنة 1856, ونهاية حكم السلطان مولاي الحسن سنة 1856. وقد لجأنا إلى
حصر موضوع هذه الدراسة في الفترة المذكورة, بالنظر إلى أهمية سنة 1856,
التي سجلت بداية الانفتاح التام والنهائي للمغرب على التجارة الأوربية, واكتمال
شروط التنافس الاستعماري حول استنزاف خيرات البلاد, بشكل أدى إلى فقدان المغرب,
لحق اتخاذ القرار مع نهاية القرن 19. ورغم هذا التحديد, فقد تعمدنا تتبع مراحل
الغزو التجاري الأوربي للسوق المغربية قبل منتصف القرن 19, باعتبار أن الغزو,
قد بدأ منذ تحول مراكز الثقل في التجارة العالمية لصالح أوربا, منذ توطيد
النظام الرأسمالي فيها, وقد نهجنا نفس المسلك عند وصف وتحليل آثار ذلك الغزو
على تطور البنيات الاقتصادية للمجتمع المغربي, كما حاولنا تلمس التغيرات
الاجتماعية المصاحبة لأزمة الاقتصاد المغربي الناجمة عن احتكاكه باقتصاد
رأسمالي متطور.
يحاول هذا البحث إعادة وضع الأزمة الاقتصادية والمالية - التي عرفها المغرب
طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر - في سياقها الصحيح, باعتبارها نتيجة
طبيعية للاستغلال الرأسمالي الممنهج الذي تعرض له اقتصاد المغرب كاقتصاد في طور
ما قبل رأسمالي عبر آليات الغزو التجاري.
لقد تعرض المغرب لحصار تجاري أوربي منذ خروج الأوربيين في الكشوفات الجغرافية
الكبرى, وتحول مركز الثقل في التجارة العالمية, ومحاورها من البحر الأبيض
المتوسط نحو المحيط الأطلسي مما أدى إلى خنق تدريجي لتجارة المغرب الصحراوية, و
إلى تقويض الوساطة التجارية التي اضطلع بها المغرب طيلة قرون عديدة بين إفريقيا
وأوربا والمشرق. وبعد هذا التطويق اهتمت الرأسمالية التجارية والصناعية
الأوربية بغزو السوق المغربية نفسها, وربطها بتيار التبادل الرأسمالي, وهو ما
تم بعد سلسلة من الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية طيلة القرن 19, والتي
كانت مصحوبة بفرض معاهدات واتفاقيات جردت المخزن من حق اتخاد القرار, ومن
سيادته على التشريع الجمركي. وعلى إثر ذلك شرعت الدول الأوربية في إغراق السوق
المغربية بالمصنوعات والبضائع التجارية الأوربية, واقتناء المواد الأولية
المغربية, مما نتج عنه عجز الميزان التجاري المغربي بشكل شبه مستمر ومتزايد
طيلة الفترة التي أعقبت حرب إسلي وحتى نهاية القرن 19.
وقد عمل الأوربيون على غزو السوق المغربية بواسطة الطبقة التجارية التي نشأت في
المجتمع المغربي مستفيدة من الغزو التجاري الأوربي. وكانت النتائج المترتبة عن
هذا الغزو تتمثل في تحول المغرب إلى منفذ للتجارة الأوربية, وربطه بشكل نهائي
بالسوق الرأسمالية العالمية عبر الواجهة الأطلسية وتقويض تجارته الصحراوية
والبرية التقليدية وتحطيم صناعته الحرفية, وسيطرة الأرستقراطية والفئة التجارية
الناشئة والمستوطنين الأجانب على أراضي المخزن والقبائل, وتحطيم النظام المالي
والنقدي للمغرب.
منهجية البحث
تسعى هذه الدراسة إلى التأكيد, على أن أخطر المشاكل التي عاشها المغرب في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر كانت ناجمة عن الضغوط الأوربية, وتنامي غزو التجارة
الأوربية للأسواق المغربية, الذي أدى إلى خلخلة البنيات الاقتصادية للمجتمع
المغربي, وذلك عكس ما تذهب إليه بعض الكتابات الأجنبية من أن أزمة المغرب في
القرن التاسع عشر كانت ناتجة عن الكوارث الطبيعية كالجفاف والمجاعات والأوبئة
والجراد, وعن انغلاق المغرب ورفضه الانفتاح على التجارة والاقتصاد العالمي, وعن
ضعف مستواه التقني. والواقع أن سلاطين المغرب كانوا على إدراك تام للآثار
السلبية للغزو التجاري الأوربي على بنيات المجتمع المغربي الاقتصادية
والاجتماعية, وبذلوا كافة جهودهم للحد منها.
بالإضافة إلى تجاوز النظرة الأجنبية المشوبة بالمغالطات, حاولنا من خلال هذه
الدراسة تخطي سلبيات الحوليات التاريخية المغربية التي اهتمت بالأحداث السياسية
والعسكرية, وعزفت بشكل يكاد يكون كليا عن التأريخ لتطور البنيات الاقتصادية
والاجتماعية للمجتمع المغربي في القرن 19. وعملنا على إبراز دور الغزو التجاري
الأوربي في زعزعة الاقتصاد المغربي, وإخفاق الجهود التحديثية للمخزن في النصف
الثاني من القرن المذكور.
وقد حرصنا على عدم التسرع في إصدار الأحكام النهائية وعدم المبالغة في
الاستنتاجات.
طبيعة مصادر ومراجع البحث
اعتمدنا في كتابة هذا البحث على مصادر ومراجع مختلفة ومتنوعة, فبالإضافة إلى
الحوليات التاريخية المغربية, رجعنا إلى مجموعة من الكتابات الأجنبية التي
تناولت من قريب أو من بعيد موضوع أزمة اقتصاد المغرب في القرن التاسع عشر, في
علاقتها بالتوسع الرأسمالي الأوربي, كما استفدنا بالخصوص من مجموعة من الدراسات
التاريخية العلمية, التي أنجزها مجموعة من الباحثين المغاربة المعاصرين. كما
حاولنا استغلال الوثائق الواردة في المصادر والمراجع التي اعتمدنا عليها. وقد
قصدنا من وراء هذا التعدد والتنوع في المصادر والمراجع, مقابلة النصوص
والروايات التاريخية بعضها ببعض وتحقيقها, وتجنب السقوط في النظرة الأحادية
الجانب للأحداث التاريخية.
بنية البحث
قسمنا هذا البحث إلى بابين. تناولنا في الباب الأول الغزو التجاري الأوربي
للأسواق المغربية حتى حدود 1894. وقد تتبعنا فيه مراحل الغزو التجاري الأوربي
قبل 1856, وتعرضنا للتوطيد القانوني للغزو ابتداء من سنة 1856, ثم لتطور
المبادلات التجارية المغربية الأوربية اللامتكافئة فيما بين (1856-1894). أما
الباب الثاني, فقد حاولنا من خلاله إبراز آثار الغزو التجاري الأوربي على بنيات
الاقتصاد المغربي في الميدان التجاري والحرفي وفي القطاع الفلاحي, والنظام
المالي والنقدي.
أهم النتائج المتوصل إليها
الغزو التجاري قبل معاهدة 1856
أسفر توطيد النظام الرأسمالي في أوربا, عن توسع خارجي لضمان تطور الرأسمالية
التجارية وتراكم رؤوس الأموال الضرورية لقيام الثورة الصناعية, مما حرم المغرب
من الاستفادة من تجارته البعيدة المدى, حيث كانت عائدات الذهب الإفريقي وتجارة
السودان تتحول تدريجيا نحو أوربا بسبب اقتصار صادرات المغرب على المواد
الأولية، وغلبة المصنوعات على وارداته, وذلك منذ بداية العصور الحديثة في أوربا
وما رافقها من تحول مركز الثقل في التجارة والملاحة العالمية من البحر المتوسط
نحو المحيط الأطلسي لصالح القوى البحرية الأوربية.
وأمام تدهور تجارته الصحراوية, كان على المغرب التحول للواجهة المحيطية, في
محاولة للاستفادة من الظرفية الاقتصادية الجديدة والحد من الاضطرابات التي
رافقت زحف قبائل الجنوب نحو الشمال الغربي, وهو ما فتح المجال لبداية الغزو
التجاري الأوربي للسوق المغربية منذ النصف الثاني من القرن 18.
في عهد السلطان مولاي سليمان نجح المخزن في إيقاف المد التجاري الأوربي في
البلاد, بنهج سياسة الاحتراز من أوربا، ومحاولة التشبث بالتجارة التقليدية مع
إفريقيا السوداء والمشرق, غير أن التحركات القبلية وضغوط فئة التجار الناشئة
حالت دون بلوغ هذه السياسة لأهدافها.
في عهد السلطان مولاي عبد الرحمان, تعرض المغرب لضغوط عسكرية ودبلوماسية
واقتصادية قوية من قبل القوى البحرية الأوربية الرامية إلى غزو السوق المغربية,
وربطها بتيارات التبادل الرأسمالي، وقد تزامنت هذه الضغوط مع رغبة المخزن في
تنمية مداخيله لمواجهة متطلبات الجهود التحديثية والأزمات الاقتصادية
والاجتماعية الداخلية, مما دفع به إلى الانفتاح على التجارة الأوربية والعمل
على مراقبتها, وتوجيهها وفق مصلحة البلاد بواسطة الاحتكارات الممنوحة لفئة
"
تجار السلطان" والتشريع الجمركي.
بعد 1845, نمت التجارة الأوربية في المغرب, مما مكن الأوساط التجارية والصناعية
والمالية والملاحية البريطانية والفرنسية من إدراك الإمكانيات البضاعية
والاستيعابية للسوق المغربية كمصدر للمواد الأولية (الحبوب، الصوف، الجلود)
ومنفذ للتجارة الأوربية (المنسوجات، الشاي، السكر، البن...) فعملت الأوساط
البريطانية على فتح السوق المغربية لتجارتها بناء على إطار قانوني جديد يجرد
المخزن من سيادته على التشريع الجمركي, ومن نظام الامتيازات الممنوحة لفئة
"
تجار السلطان" في وقت سعت فيه الأوساط الفرنسية إلى غزو السوق المغربية عبر
الحدود الشرقية.
الغزو التجاري في النصف الثاني من القرن 19
نجحت بريطانيا مع بداية النصف الثاني من القرن 19 في الحصول على امتيازات واسعة
لتجارتها في المغرب بمقتضى معاهدة 1856 التي شكلت ضربة قاضية للرقابة المخزنية
على التجارة الخارجية, فلم يحتفظ المخزن بعد ذلك التاريخ إلا برقابة جزئية على
الصادرات, وبالمقابل انفتحت السوق المغربية أمام الواردات الأوربية.
كانت فرنسا تهتم بشراء المواد الخام الضرورية لصناعتها, كالأصواف والجلود, من
المناطق الداخلية للبلاد, وهو ماحققته بمقتضى اتفاقية بيكلار, التي مكنت تجارها
من اتخاذ عملاء وسماسرة محميين من الأعيان والأثرياء ومن رجالات المخزن
والشرفاء, واستعمالهم في اختراق التماسك القبلي وغزو الأسواق الداخلية للبلاد,
مما كان يحد من سلطة المخزن ويفكك المجتمع المغربي من الداخل طيلة النصف الثاني
من القرن 19، خصوصا مع تقنيين وتعميم امتيازات الحماية القنصلية ومنح امتيازات
جديدة للأجانب كحق امتلاك العقار بمقتضى اتفاقية مدريد.
بعد حرب تطوان, فرض نظام الباب المفتوح على المغرب, وهو ما استغلته القوى
الأوربية لربطه بتيارات التبادل الرأسمالي واستنزاف خيرات البلاد بشكل ممنهج
بواسطة إغراق الأسواق بمنتوجات كالشاي والسكر والبن والمنسوجات, التي اندمجت في
العادات الاستهلاكية لعامة المغاربة, وأصبحت من ضرورياتهم اليومية, فتحول
المغرب تدريجيا إلى منفذ للتجارة الأوربية. ومع تصاعد القوة الألمانية -التي
نافست المصالح الفرنسية والإنجليزية بشدة- استمرت القوى الأوربية تطالب المخزن
بتنازلات جديدة لتقويض رقابته على الصادرات, لكنها أخفقت في ذلك رغم جهودها
المضنية في هذا السبيل.
انعكاسات الغزو التجاري
في الميدان التجاري
ظل حجم المبادلات المغربية الأوربية خاضعا, في تطوره للظرفيتين المغربية
والأوربية, لذلك كنا نلاحظ انهيارا في المبادلات خلال فترات الكوارث الفلاحية
بالمغرب, كفترات (1857-1860), (1867-1869), (1878-1884) و(1892-1894), خصوصا
إذا تزامنت تلك الكوارث مع أزمات فائض الإنتاج في أوربا, كما حدث خلال فترتي
(1867-1868)
و(1878-1884)، حيث كانت صادرات المغرب تنهار بفعل رداءة المحاصيل,
في وقت كانت تتزايد فيه وارداته من الشاي والسكر والبن والمنسوجات القطنية
لانخفاض أسعارها وملاءمتها للأوضاع المعيشية المنهارة لعامة الناس، ولم تكن تحد
من تسربها غير القدرة الشرائية للسكان التي كانت تمضي في انهيار متزايد.
وكنتيجة لذلك, فقد ظل الميزان التجاري, المغربي في عجز شبه مستمر طيلة النصف
الثاني من القرن 19, ولم يشهد بعض الانتعاش إلا في فترات المحاصيل الفلاحية
الجيدة, ذلك أن المغرب كان قد تحول في الثلث الأخير من القرن المذكور إلى منفذ
للتجارة الأوربية أكثر منه مصدرا للمواد الأولية, مما فسح المجال أمام
الاحتكارات المالية والتجارية والملاحية الكبرى, للتنافس حول احتكار السوق
المغربية بعد 1880.
خلف الغزو التجاري الأوربي آثارا عميقة في البنيات الاقتصادية للمجتمع المغربي,
كاقتصاد ما قبل رأسمالي. وقد كانت أولى هذه الآثار تقويض الدور التجاري
التقليدي الذي كان يقوم به المغرب في التجارة العالمية, مما أدى إلى اختناق
تدريجي في تجارته الصحراوية إلى أن تدهورت مع نهاية القرن 19, كما تراجعت
الموانئ التي ارتبط نشاطها بهذه التجارة كالصويرة وتطوان. وفي المقابل نما دور
الواجهة الأطلسية الشمالية الغربية, إذ تزايدت أهمية طنجة كبوابة لتسرب البضائع
الأوربية إلى الأسواق المغربية, غير أنه مع نهاية القرن 19 أصبحت الدار البيضاء
تنافسها المكانة الأولى في التجارة البحرية للمغرب.
رافق تحول محاور المبادلات تغلغل البضائع الأوربية في السوق المغربية وانخفاض
حجم الصادرات المغربية واقتصارها على مواد خامة فلاحية بالدرجة الأولى بسبب ضعف
التطور التقني وعتاقة أساليب وأنماط الإنتاج مما أدى إلى عجز متزايد في الحساب
التجاري خلال القرن 19, وهو ما كانت له أوخم العواقب على القطاعات الإنتاجية
كالصناعات الحرفية، وعلى النظام النقدي والجهود الإصلاحية للمخزن.
أزمة الحرف
أدت مجموعة من العوامل إلى نسج الظرفية العامة لأزمة الحرف في النصف الثاني من
القرن 19, كتوالي القحوط وما نتج عنها من تضييق السوق الداخلية أمام المنتوج
الحرفي، وضعف المستوى التقني, ومضاعفات الأزمة المالية وما رافقها من ضغط جبائي
متصاعد على الحرفيين. غير أن منافسة المصنوعات الأوربية الشبيهة بالمصنوعات
الحرفية والرخيصة الثمن والمستجيبة لذوق المستهلك المغربي, والتي حرمت الحرف من
المواد الأولية كالصوف والجلد ومن أسواقها التقليدية كالسنغال والجزائر ومصر,
أدت إلى تحطيم معظم الحرف, فتوالت ردود فعل الحرفيين, وتجسدت في معارضتهم
الشديدة لنظام المكوس, كما حدث في فاس ومراكش سنة 1873.
في القطاع الفلاحي
وفي الميدان الفلاحي أدت الظرفية الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية
المضطربة والمتأزمة, التي خلقها التدخل الأجنبي واستنزاف خيرات البلاد, إلى
تلاشي الرقابة المخزنية العليا على تملك الأراضي, وإلى تفسح التماسك القبلي
الذي كان يحول دون تكوين ملكيات خاصة في البوادي, فاضطر المخزن تحت ضغط الأزمة
المالية إلى تفويت أراضي بيت المال والأحباس والجيش والنائبة للخواص وتمليكها
لهم في شكل تنافيذ وإنعامات تحول مضمونها في النصف الثاني القرن 19, إلى إقطاع
التمليك التام والنهائي.
استفادت الارستقراطية المخزنية والدينية من نفوذها المخزني والديني وحصلت على
إقطاعات شاسعة من المخزن, عملت على توسيعها بشتى الوسائل. وإذا كانت أملاك
هاتين الشريحتين معرضة أحيانا للتفكك, بسبب المصادرة والسطو بالنسبة
للأرستقراطية المخزنية, أو نتيجة التقسيم والتفويت بالنسبة للمرابطين والشرفاء,
فإن أملاك هذه الفئة الأخيرة كانت تبدو أكثر ثباتا واستمرارية أمام الحوادث
والتحولات الظرفية التي شهدها المغرب في النصف الثاني من القرن 19.
نمت فئات رأسمالية تاجرة في الحواضر الكبرى منذ أواخر القرن 18 في أحضان الدولة
المغربية ورعايتها بشكل موازي لتنامي التجارة الأوربية في المغرب. فسيطرت
تدريجيا على المواقع الاقتصادية والاجتماعية الهامة, واندمجت في الجهاز المخزني
في النصف الثاني من القرن 19. غير أن الأزمة المالية والهزات النقدية التي ميزت
المغرب في تلك الفترة دفعت الفئة التجارية الناشئة إلى استثمار أموالها في
اقتناء الأراضي وفي المخالطات وعمليات الرهون المجحفة, ونشأت بذلك بوادر
الرأسمالية الفلاحية في المغرب. وكان ذلك التطور أكثر وضوحا بالنسبة لتجار فاس
والرباط وغيرهما من الحواضر الكبرى.
تمكن الأجانب أيضا من امتلاك الأراضي في ضواحي المدن الساحلية أولا ثم بعد ذلك
حول المدن الداخلية الكبرى معتمدين في ذلك على وساطة المخالطين والمحميين,
ومستغلين ضعف التوثيق وفساد الإشهاد في بعض الحالات, وأدخلوا زراعات تسويقية
وامتلكوا قطعان الماشية لتغذية الأسواق الأوربية بحاجياتها من المنتجات
الفلاحية.
كان احتجان الفئات المذكورة لأراضي المخزن والقبائل والأحباس يشتد إبان الفترات
العصيبة كالقحوط والاضطرابات. وكان ذلك يتم على حساب الفلاحة المعيشية لعامة
سكان البوادي.
الأزمة المالية والنقدية
تعرض المغرب لأزمة مالية ونقدية طيلة القرن 19, وما فتئت حدتها تتفاقم
بالاقتراب من نهاية القرن, في ارتباط وثيق مع الغزو التجاري الأوربي للأسواق
المغربية. فقد انسحبت قطع المثقال بالتدريج من التداول, وأصبح النحاس يشكل
القاعدة المعدنية للعملة المغربية, وحل الريال الأجنبي محل المثقال وأصبح يمثل
العيار الحقيقي للنظام النقدي المغربي, واستمر انهيار الأوقية أمام الريال
الأجنبي رغم المحاولات المخزنية المتكررة للحد منه. وكان ذلك ناتجا عن جملة من
العوامل المتشابكة, أهمها عجز الميزان الحسابي المغربي وتهريب الأجانب للنقود
المغربية للاستفادة من فارق الوزن الذي كان يميزها عن القطع الأجنبية, إضافة
إلى تزايد نفقات المخزن التحديثية وغلاء المعادن النفيسة وندرتها وثقل الغرامات
التي كان يستخلصها الأجانب سواء من المخزن أو من غرمائهم المفلسين طيلة النصف
الثاني من القرن19, وتزوير النقود وتعقد عمليات الصرف وتعدد العملات الوطنية
والأجنبية وتضخم الفلوس النحاسية ورفض الأجانب بعض القطع النقدية المحلية في
مختلف الأداءات بدعوى رداءتها أو كونها مزورة, وانهيار مداخيل بيت المال من
الرسوم الجمركية والجبايات.
انتقل سعر الريال الفرنسي من عشر أواق مع نهاية القرن الثامن عشر إلى 17 أوقية
سنة 1848, ثم 19 سنة 1852, و32.5 سنة 1862 و 40 سنة 1868, ثم إلى 78 سنة 1881
وإلى 140 أوقية سنة 1890. وقد رافق هذا الانهيار في أسعار الأوقية تباين في
الصرف بين المناطق, وهو ما تضرر منه عامة الناس, وانهارت مداخيل المخزن رغم
محاولاته للتشبث بالسعر الرسمي للريال في استخلاص الواجبات الجمركية والجبايات.
ولمعالجة الوضع شهد النصف الثاني من القرن 19 عدة محاولات من جانب المخزن
لإصلاح الحالة النقدية والمالية, لكنها سرعان ما كانت تنتهي بالفشل أمام
المعارضة الأجنبية, ومقاومة الفئات المستفيدة من الغزو التجاري الأوربي في
الداخل, وكان ذلك مصير محاولات 1862، 1869، 1881 الرامية إلى الحد من انهيار
الأوقية وإقامة نظام نقدي جديد. فاستمر التدهور المالي والنقدي ليسجل مستويات
جديدة بعد 1894 دفعت البلاد إلى السقوط في شباك الاحتكارات المالية الأجنبية
عبر آليات سياسة القروض.
(*)
هذا المقال هو تلخيص لبحث أنجزناه بعنوان: جوانب من الغزو التجاري الأوربي
للأسواق المغربية وآثاره على تطور بنيات الاقتصاد المغربي1856م-1894م، خلال
الموسم الدراسي 1992-1993 لنيل دبلوم المدرسة العليا للأساتذة بإشراف الأستاذ
العربي أكنينح بالمدرسة العليا للأساتذة بفاس بالمملكة المغربية.
مصادر ومراجع البحث
1)
باللغة العربية
-
ابن خلدون (عبد الرحمان), مقدمة ابن خلدون، دار القلم، بيروت, ط 9, 1986.
-
ابن زيدان (عبد الرحمان), إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس, 5
أجزاء, مطابع إديال, الدار البيضاء, 1990.
-
آفا (عمر), مسألة النقود في تاريخ المغرب في القرن 19 (سوس 1822-1906),
منشورات كلية الآداب بأݣادير, مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء, 1988.
-
الأدهمي (محمد مظفر), دراسات في التاريخ الأوربي الحديث, مطبعة المعارف
الجديدة, الرباط, 1984.
-
الأدهمي (محمد مظفر), أوربا في القرن 19, مطبعة المعارف الجديدة, الرباط,
1985.
-
البزاز (محمد الأمين), "جوانب من الأعمال الاجتماعية للمولى الحسن الأول
بطنجة", مجلة دار النيابة, العدد 28، 1991.
-
الخمليشي (عبد العزيز), "حول تجارة الرقيق في المغرب خلال القرن 19" مجلة دار
النيابة, العدد 7, 1985.
-
العماري (أحمد), توات في مشروع التوسع الفرنسي بالمغرب من حوالي 1850 إلى
1902.
منشورات كلية الآداب بفاس. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1988.
-
القادري (محمد بن الطيب), التقاط الدور, تحقيق هاشم العلوي القاسمي, دار
الآفاق الجديدة, بيروت, 1983.
-
المنوني (محمد), مظاهر يقظة المغرب الحديث, منشورات وزارة الأوقاف والشؤون
الإسلامية, مطبعة الأمنية، الرباط 1993.
-
التازي (عبد الهادي), رسائل مخزنية (1292-1322/1875-1904) القسم الأول،
المعهد الجامعي للبحث العلمي, مطبعة أݣدال- مغرب، الرباط, 1979.
-
التوزاني (هراج نعيمة), الأمناء بالمغرب في عهد السلطان مولاي الحسن
(1290-1311/1873-1894),
منشورات كلية الآداب بالرباط, مطبعة فضالة، المحمدية,
1979.
-
التوفيق (أحمد), المجتمع المغربي في القرن 19. إينولتان (1850-1912), منشورات
كلية الآداب بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء، ط 2, 1983.
-
التمسماني (خلوق عبد العزيز) "المطامع الإسبانية في طنجة (1914-1945)" مجلة
دار النيابة, العدد 7, 1985.
-
التمسماني (خلوق عبد العزيز) "المجتمع الفحصي في القرن 19"، مجلة دار
النيابة، العدد 28، 1991.
-
الزياني (أبو القاسم), "الخبر عن أول دولة من دول الأشراف العلويين" منقول عن
الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب, نشر هوداس, المطبعة الوطنية، باريس،
1886.
-
السليماني (أبو عبد الله), اللسان المعرب عن التهافت الأجنبي حول المغرب,
مطبعة الأمنية, الرباط، 1971.
-
الوزاني (سيدي المهدي بن محمد الحسني العمراني), الجامع من النوازل الجديدة
الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى المسماة بالمعيار الجديد الجامع
المعرب عن فتاوي المتأخرين من علماء المغرب، الأجزاء 3 و6 و7 و11, طبعة حجرية
بخزانة القرويين بفاس تحت رقم 14710.
-
الناصري (أبو العباس أحمد بن خالد), الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى,
الأجزاء 7 و8 و9 , دار الكتاب, الدار البيضاء، 1956.
-
باسكون (بول), "مكاتبات شخصية ورسائل مخزنية حول الناحية الحوزية"
Dans, le Haouz de Marrakech, T2, éd Marocaines internationales,
Tanger,1983.
-
بن جلون (عبد المجيد), جولات في المغرب أمس, 1872, مطبعة النجاح الجديدة,
الدار البيضاء, 1974.
-
بن الصغير (خالد), المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856-1886)
الشركة المغربية للنشر, مطبعة فضالة، المحمدية، 1990.
-
بوشعراء (مصطفى), الاستيطان والحماية بالمغرب (1280-1311/1863-1184) المطبعة
الملكية, الرباط، 1984.
-
بوطالب (إبراهيم), "الصحراء في تاريخ المغرب" مجلة دار النيابة, العدد 7،
1985.
-
جوليان (شارل أندري), تاريخ إفريقيا الشمالية, ج 2, الدار التونسية للنشر،
تونس، 1983.
-
حركات (إبراهيم), المغرب عبر التاريخ, ج 3، دار الرشاد الحديثة, مطبعة النجاح
الجديدة, الدار البيضاء، 1985.
-
داود (محمد), تاريخ تطوان، ج 7، المطبعة الملكية, الرباط 1990. الأجزاء 4 و3
و6, المطبعة المهدية, تطوان, 1964-1970.
-
داود (محمد), مختصر تاريخ تطوان, المطبعة المهدية, ط 2, 1955.
-
روجرز, تاريخ العلاقات الإنجليزية - المغربية حتى عام 1900، دار الثقافة,
مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء، 1981.
-
شنيرب (روبير), القرن 19, ضمن مجموعة " تاريخ الحضارات العام"، منشورات
عويدات، بيروت, باريس, ط 2, 1987.
-
عياش (ألبير), المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية، ترجمة عبد القادر
الشاوي، نور الدين السعودي، نشر دار الخطابي, مطبعة اتفاق بوبكري, الدار
البيضاء, 1985.
-
عياش (جرمان), دراسات في تاريخ المغرب, الشركة المغربية للناشرين المتحدين،
مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء, 1986.
-
عياش (جرمان), "الأقلية اليهودية في المغرب ما قبل الاستعمار" مجلة دار
النيابة، ع 12, 1986.
-
كريم(عبد الكريم), المغرب في عهد الدولة السعدية، شركة الطبع والنشر, الدار
البيضاء, ط 2, 1978.
-
كنينح العربي, آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني
مطير, رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب بالرباط، 1984، (غير
منشورة).
-
لوتورنو (روجي), فاس قبل الحماية, الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر,
دار الغرب الإسلامي, بيروت, 1986.
-
مزيان (أحمد), فجيج: مساهمة في دراسة المجتمع الواحي المغربي خلال القرن 19,
(1845-1903)
، مطبعة فجر السعادة, 1988.
-
موزنيه (رولان) وآخرون, القرن 18: عهد الأنوار, ضمن مجموعة "تاريخ الحضارات
العام", منشورات عويدات, بيروت, باريس, ط 2, 1987.
-
نوار (سليمان), نعنعي (عبد المجيد), التاريخ المعاصر. أوربا من الثورة
الفرنسية إلى الحرب العالمية الثانية, دار النهضة العربية, بيروت, 1973.
2)
باللغة الأجنبية
- Ben Ali (Driss),Le Maroc Précapitaliste. S.M.E.R, Casablanca, 1983.
- Brignon (et Autres), Histoire du Maroc, Hatier, Paris, 1967.
- Chénier (L.), « les ports de l'empire de Maroc » Extrait des « Recherches
historiques sur les Maures et Histoire de l'empire de Maroc », et prefacé
par Charles penz. éd. Moynier, Casablanca, 1951.
- De Foucauld (V.Ch), Reconnaissance au Maroc. (1883-1884), éd. Challamel,
Paris , 1888.
- Diaz (R,L) « Los judíos en Marruecos Durante el Sultanado de Sidi Mohamed
Ben Abdallah (1757-1790) », in Dar Al-Niaba, Nº 12, 1986.
- Julien (Ch. A.), Le Maroc face aux Imperialismes (1415-1956). éd. J.A.
Paris, 1978.
- Laroui (A), Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain
(1830-1912), François Maspero, Paris, 1980.
- Laroui (A), L'histoire du Maghreb, un essai de Synthèse, François Maspero,
Paris, 1982.
- Lazarev (G.), « Les concessions foncière au Maroc » dans Etudes
sociologiques sur le Maroc. B.E.S.M, 1978.
- Miége (J.L), Le Maroc et l'Europe (1830-1894), 5 tomes, éd. La port,
Rabat. 1989.
- Pascon (Paul), le Haouz de Marrakech, 2 Tomes, Rabat, 1983.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق