السبت، 2 مايو 2015

قراءة في كتاب المغرب والثورة الفرنسية بقلم - د. مصطفى الغاشي




تجدر الإشارة في البداية إلى أن الجامعة المغربية عرفت في السنوات الأخيرة طفرة كبيرة فيما يخص المواضيع المتناولة في الرسائل والأطروحات ، وهو ما يعني بأن انشغالات الجيل الجديد من الجامعيين المغاربة تختلف إلى حدّ ما عن انشغالات الجيل القديم، كما أن ذلك يعني بأن الجيل الجديد قد خلق آفاقا جديدة وهو ما يترجم تلك الرغبة في التميز سواء على مستوى اختيار المواضيع أو المناهج المعتمدة لإنجازها.

وفي هذا السياق يندرج عمل الدكتور عبد الحفيظ حَمّان الذي اختار موضوع أطروحته " المغرب والثورة الفرنسية " الصادر عن مؤسسة الزمن ضمن سلسلة شرفات ، الطبعة الأولى لسنة 2002 .

يقع هذا الكتاب ـ المستخرج من الأطروحة ـ في 260 صفحة ، ويضم تقديما للدكتور محمد سبيلا ، ومقدمة المؤلف ، ثم المدخل المخصص لموقع المغرب في علاقته بالقارة الأوربية خاصة فرنسا صاحبة حدث الثورة والتحولات الكبرى في أوربا . بالإضافة إلى ذلك يتكون هذا الكتاب من ثلاثة فصول في علاقة منهجية وموضوعية جد منسجمة .

* الفصل الأول : خصص لدراسة الثورة الفرنسية وتشكل العلاقات المغربية الفرنسية ما بين 1789 و 1798 ، وهو يحاول أن يجيب عن سؤالين كبيرين :

الأول : كيف تعرف المغاربة على حدث الثورة الفرنسية ؟

الثاني :ما هو شكل ونوعية العلاقات التي نسجت ما بين المغرب وفرنسا خلال السنوات الأولى للثورة ؟

* الفصل الثاني :خصص لدراسة موقف وعلاقات المغرب مع فرنسا الثورة أثناء الحملة الفرنسية على مصر : 1798 ـ 1801 . خلال هذا الفصل سعى الأستاذ حَمّان إلى تبيان أصداء الحملة الفرنسية على مصر، وكيف تعامل المغاربة معها . ومن جهة أخرى سعى لكشف الانعكاسات السياسية للحملة الفرنسية على مصر .

* الفصل الثالث : خصصه المؤلف لرصد ودراسة العلاقات المغربية الفرنسية خلال فترة حكم نابليون بونابرت 1801 ـ 1815 ، وهو أحد القادة العسكريين الذي نشأوا في أحضان الثورة الفرنسية وسعوا لنشر مبادئها وأفكارها في القارة الأوربية وفي الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط . وخلال هذا الفصل تطرق الباحث إلى تبيان مجالات العلاقات بين المغرب وفرنسا خلال هذه الفترة ، كما سعى إلى الكشف عن المشاريع التوسعية لنابليون في البحر الأبيض المتوسط والمغرب ، وهو الوجه الآخر الغير المكشوف في العلاقات المغربية الفرنسية مع مطلع القرن التاسع عشر .

وفي الأخير يضم الكتاب بالإضافة إلى الخاتمة والبيبليوغرافيا ملاحق لعدد من الوثائق البالغة الأهمية بالنسبة لموضوع الكتاب .

يقول الدكتور محمد سبيلا في تقديمه للكتاب :<< هذا الكتاب يقدم أطروحة متميزة في موضوعها وفي طريقة تناولها . لكن ما يميزها كذلك هو الجهد التوثيقي الذي قام به صاحبها حيث ذيل بحثه بوثائق فريدة تسلط الضوء على هذه الحقبة من تاريخ المغرب إبان الثورة ...هذا الكتاب يقدم مادة تاريخية وتحليلية وافرة موثقة لتاريخ المغرب في القرن الثامن عشر وعلاقاته الخارجية وصورته كدولة عريقة ذات سيادة ...>> .

يبدو من كلام الدكتور سبيلا أن قوة كتاب الأستاذ حَمّان ترتكز على عنصرين أساسيين :

ـ الأول : تميّز الأطروحة بموضوعها وطريقة تناولها .

ـ الثاني : المجهود التوثيقي سواء بالنسبة للوثائق المغربية أو الوثائق الأجنبية وخاصة الفرنسية . والعنصران معا يكشفان عن المجهود الكبير الذي بذله المؤلف لإنجاز هذا العمل الأكاديمي .

ويعتبر صاحب المشروع بأن المادة التاريخية التي توفرت له مكنته من الإجابة عن عدة أسئلة . وهذا صحيح ، إلا أن المجهود الذهني والتحليلي كان له دور كبير في صياغة الموضوع من خلال استنطاق النصوص والوثائق .

ففي الفصل الأول قدم الباحث أكثر من دليل مقنع عن التوقيت وكيفية اطلاع المغرب على حدث الثورة الفرنسية ، خاصة بالنسبة للمغرب الرسمي .، فإذا كانت الثورة قد اندلعت عام 1789 ، فإنها قد تزامنت مع سفارة القائد محمد الزوين الذي كان بعثه السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى إسبانيا وإيطاليا وفرنسا والدولة العثمانية . ويبدو بعد عودة هذا السفير في يوليوز 1790 ، أنه تمكن من الاطلاع على الأوضاع السياسية في فرنسا ، وهو ما يعني بأن هذه السفارة كان لها دور كبير في إطلاع السلطة المركزية على الثورة الفرنسية بعد مرور حوالي سنة على الحدث . وإلى جانب عنصر السفارة ، اعتمدت السلطة المغربية على عنصر آخر لا يقل أهمية كمصدر للمعلومات عن الثورة الفرنسية ، ويتعلق الأمر هنا بالجهاز القنصلي الأوربي وخاصة الفرنسي المقيم بالمغرب ، والذي كان على اتصال دائم بما يجري في فرنسا ، وهو ما كان يؤدي إلى تداول هذه الأخبار بين عناصر السلطة المغربية .

أما الفئة المثقفة المغربية ،ونقصد هنا كما يذكر الباحث ( المؤرخون والعلماء )، فيبدو أنها ، رغم معرفتها واطلاعها بما حدث في فرنسا من ثورة ،إلا أنها غضت الطرف عن هذا الحدث في كتاباتها ومؤلفاتها ، إلا بعض الاستثناءات اليتيمة ، التي سجلها الأستاذ في صفوف المؤرخين كما في صفوف العلماء. ويفسر المؤلف هذا الموقف بتأثر أو التزام الفئة المثقفة المغربية بالموقف المغربي الرسمي من حدث الثورة الفرنسية الذي يتماشى مع موقف الدولة العثمانية بصفة عامة ، وكل ذلك ، يؤكد الباحث، يدخل تحت الدعاية الإنجليزية السلبية حول الثورة الفرنسية .

وإذا كان هذا صحيحا إلى حد ما ، فإن الفئة المثقفة المغربية لم تكن تشكل أوربا بالنسبة لها قيمة كبرى إلا في حدود جد ضيقة، وحتى عام 1800، خصوصا إذا ما قارنا ذلك بما كان يمثله الشرق العربي الإسلامي بالنسبة للنخبة المثقفة المغربية خلال الفترة الحديثة . فالواقع المادي لم يكن يشكل بالنسبة لهؤلاء قيمة كبرى ، وهذا راجع بالأساس إلى طبيعة التكوين الديني والثقافي والمرتبط أساسا بالدين . وبناء على ذلك فإن عدم الاهتمام بأحداث أوربا قد لا يكون أمرا مستغربا حتى ولو كان الحدث هو الثورة الفرنسية بذاتها .

وإذا كانت الفئة المثقفة المغربية لم تول أي اهتمام لحدث الثورة فإنها بالمقابل ـ وبشكل نسبي ـ لم تهمل الحديث عن الحملة الفرنسية على مصر . فإذا كان الزياني من حيث هو مثقف مخزني قد غض الطرف عن الحملة ، فإن الضعيف ضمّن مؤلفه معلومات عن الحدث الذي هزّ العالم الإسلامي يومها .

أما الفقهاء فقد أولوا للحملة أهمية خاصة في خطبهم وكتاباتهم الدينية . ويستنتج من كل ذلك أن المغرب لم يكن منعزلا عن الأحداث الدولية التي كانت تجري خارج حدوده ( فرنسا ، إسبانيا، مصر، والدولة العثمانية ). أما الرأي العام أو عامة المغاربة فلم يكن لهم علم بهذه الأحداث إلا بمقدار ما كان يقدمه الفقهاء والعلماء بالدرجة الأولى ثم المخزن بالدرجة الثانية .

أما عن تشكل العلاقات المغربية الفرنسية خلال هذه الفترة فإن الدراسة التي يقدمها الدكتور حَمّان ، بناء على الوثائق والمراسلات الدبلوماسية المتوفرة في الأرشيف الفرنسي والخارجية الفرنسية ، سعت إلى الاقتناع بأن السلطان سليمان نهج سياسة مع فرنسا الثورة تقوم على العلاقات المتوازنة مع الدول الأوربية وهو ما دفعه إلى السعي للحفاظ على علاقاته بفرنسا الثورة والحضور في العالم المتوسطي دون السقوط في سياسة المحاور أو الاستقطابات أو تأثير وضغط أي دولة . وقد تجاوبت فرنسا مع هذه السياسة خاصة وأنها كانت في صراع قوي مع إنجلترا وهي بحاجة إلى ترك المغرب بابا مفتوحا أمام علاقاتها ومشاريعها السياسية والاقتصادية .

لقد استطاعت هذه الدراسة من إلقاء الضوء على مرحلة مهمة من تاريخ المغرب الذي ظل حاضرا في المشهد الدولي والمشهد المتوسطي عكس فكرة " العزلة " التي روجت لها الكتابات الفرنسية في دراستها لفترة السلطان سليمان .

في الفصل الثاني من هذا العمل يقدم المؤلف دراسة دقيقة وموثقة لعلاقات المغرب مع فرنسا الثورة في ظل السياسة التوسعية للحكومة الفرنسية سواء في أوربا أو البحر المتوسط بدافع تحويله إلى بحيرة فرنسية وهو ما أدى إلى احتلال مصر البلد الإسلامي والولاية العثمانية . وفي هذا السياق نجد المؤلف يتتبع المصادر التي نقلت أصداء الحملة على مصر، وتأسيسا على ذلك وقف المؤلف على الانعكاسات التي خلفتها الحملة الفرنسية على العلاقات المغربية الفرنسية مما مكنه من فهم واستيعاب السياسة التي نهجها المولى سليمان ليس فقط في علاقاته مع فرنسا الثورة وإنما القارة الأوربية ( إنجلترا على الخصوص ) والدولة العثمانية ، << ورغم هذه الظروف الدولية والإقليمية ، فإن السلطان سليمان ظل في ارتباط مع حكومة الثورة وحافظ على علاقاته الدبلوماسية والتجارية معها ، وإن كانت قد خضعت لعمليات المد والجزر حسب ما تمليه الظرفية الزمنية .كما أنه ظل في علاقات حسنة سواء مع الدولة العثمانية أو إنجلترا ، وهذا يعني أن كل أطراف النزاع التي كان لها وزن قوي في الساحة الدولية ظل السلطان في ارتباط معها ، ولم يخضع لأي ضغوط ولم يتحالف مع أي طرف ضد الآخر . >> .

لقد دفع هذا الاستنتاج المؤلف إلى بناء استنتاج آخر يلخصه في قوله :<< ... لا يمكن في رأينا الحديث أو وصف سياسة السلطان سليمان ب " سياسة العزلة " ، هذا الوصف الذي طالما استعملته بالأخص المراجع الأجنبية في الحديث عن هذه الفترة التاريخية للمغرب . فقد تبيّن لنا في مسار البحث أنه رغم الظرفية الصعبة التي تواجد فيها المولى سليمان على المستوى الخارجي والداخلي فإنه ظل مرتبطا سياسيا ودبلوماسيا وتجاريا بأوربا ...>> .

لا شك أن هذا الموقف المغربي يفرض التساؤل الذي طرحه المؤلف حول مدى تأثر أو تسرب أفكار الثورة الفرنسية إلى المغرب وانتشارها بين المغاربة ؟

لقد اقتنع الباحث بأن المغرب يختلف عن العديد من البلدان المشرقية الإسلامية التي تفاوتت فيما بينها من حيث التأثر بأفكار الثورة ( تركيا ومصر ). ولذلك فإنه بالنسبة للمغرب ظل بمعزل عن التأثيرات الفكرية للثورة الفرنسية ويفسر ذلك بالعناصر التالية :

أولا : العامل السياسي والثقافي ، وفي هذا الصدد عملت سياسة المولى سليمان وكذا تكوينه الثقافي والفقهي على الحيلولة دون تسرب الأفكار الثورية إلى المغرب ، وهو نفس الموقف الذي ينطبق على الفئة المثقفة التي يرجع تجاهلها لحدث الثورة إلى خضوعها للسياسة المخزنية في تعاملها مع الحدث من جهة ومن جهة ثانية تكوينها الثقافي والديني الذي لم يكن ينظر لأوربا كمجال حضاري خلال تلك الفترة .

ثانيا : العامل الجغرافي ، حيث لعب البحر الأبيض المتوسط ، العنصر الفاصل بين ضفة الشمال ( تحديدا فرنسا) وضفة الجنوب ( المغرب ) دورا كبيرا في منع تسرب الأفكار الثورية إلا في حدود جد ضيقة .

ثالثا : ظروف المغرب مع مطلع القرن التاسع عشر والمتمثلة في الجفاف والوباء ( ما بين 1799 ـ 1818 ) فقد كان لها تأثير كبير على الساكنة المغربية وبالتالي الجاليات الأوربية التي اضطرت إلى مغادرة المغرب مما أبعد المغرب إلى حد ما عن تأثيرات الأفكار الثورية .

في الفصل الثالث من الكتاب نجد دراسة معمقة للعلاقات المغربية الفرنسية خلال فترة حكم نابليون الذي عمل على نقل أفكار ومبادئ الثورة إلى خارج فرنسا وخاصة المناطق التي جرى احتلالها كإسبانيا الجارة الأقرب جغرافيا إلى المغرب أو الذي أصبح هو أيضا مهددا بالطموحات الاستعمارية النابليونية . وفي هذا الصدد سعى المؤلف إلى الكشف عن السياسة التوسعية لنابليون من خلال دراسة المشاريع التي اعتمدت عليها فرنسا لتحقيق أغراضها ( الهيئة القنصلية ، الجواسيس ، الاستخباريين ....) .

ويبدو أن هذا الاتصال المباشر بين المغرب وفرنسا خلال هذه الفترة سوف يؤدي إلى نقل معلومات هامة عن الثورة ( سفارة الحاج ادريس الرامي عام 1807 ). وهو ما تجلى في ردود فعل الفئة العالمة ورجال المخزن تجاه ما أصبحت تمثله ليس فقط القوة العسكرية الفرنسية بل الأفكار والمخططات والمشاريع القائمة على المبادئ الثورية والتي صار ينظر إليها كخطر وتهديد للمغرب . إلا أنه يستنتج من دراسة الأستاذ حَمّان أنه بالرغم من هذه الأخطار التي صارت تهدد المغرب فإن السلطان نهج سياسة متزنة إذ ظل في علاقات ودية مع فرنسا ( علاقات محدودة وإنما لم تنقطع ) ، وفي نفس الوقت حاولت فرنسا النابليونية أن تعكس من خلال علاقاتها مع المغرب أنه بلد صديق وليس بلدا عدوا ( المراسلات بين نابليون والسلطان سليمان )خصوصا وأن المغرب رفض الدخول في أي تحالفات ضد فرنسا ( إنجلترا وإسبانيا ). ويمكن القول على أنه في ظل هذا الصراع الدولي فإن الأفكار الثورية التي جاءت بها الثورة الفرنسية والتي اخترقت القارة الأوربية لم تستطع أن تجد لها آذانا أو عقولا أو قلوبا تؤمن بها في المغرب كما حدث في مصر والدولة العثمانية ، وهو ما أحدث صدمة كبرى من خلال صراع القديم والحديث أو الحداثة ، وزعزع الكثير من القيم القديمة الموروثة .

ليس هناك أدنى شك ـ كما يثبت البحث ذلك ـ في أن المغرب كان بالنسبة لفرنسا الثورة أو فرنسا نابليون مشروعا للتوسع حالت دون تحقيقه تطورات أوربا العسكرية والحربية . لقد تمكن البحث أن يجيب عن الأسئلة التي طرحت كفرضيات في بداية المشروع ، إلا أنها بالإضافة إلى ذلك فتحت آفاقا جديدة للبحث لخص الباحث بعضا منها ؛ كالدور الذي من الممكن أن تكون إنجلترا قد لعبته في توجهات المغرب السياسية سواء مع أوربا أو مع فرنسا الثورة .. وكدور الدولة العثمانية ومدى مساهمة الأرشيف العثماني في هذا المجال .

وفي الختام فإننا لا نبالغ إذا اعتبرنا بأن الكتاب " المغرب والثورة الفرنسية " هو إضافة نوعية كبحث تاريخي في موضوع دقيق ومعقد تمكن فيه المؤلف أن يدعم مشروعه بمادة تاريخية قوية وتوثيق متنوع ومركز ، وهو ما يجعل منه كما قال الدكتور سبيلا : << مرجعا تاريخيا وفكريا أساسيا لتاريخ المغرب الحديث >> .

الهوامش :

عبد الحفيظ حمان : المغرب والثورة الفرنسية ،منشورات الزمن،سلسلة شرفات9، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 2002 ،ص ص. 5ـ7.

ـ علم العامة بالأحداث الخارجية كان حسب القرب أو البعد من مصادر المعلومات .

ـ عبد الحفيظ حمان : نفسه ، ص. 199.

ـ نفسه .

ـ ألا يمكن القول بأن المغاربة لم يكن لهم اهتمام بأوربا حتى يكون لهم اهتمام بفرنسا الثورة .
 (1792-1822)
كان المغرب غير بعيد عن أحداث الثورة الفرنسية لسنة 1789م وبدأ يعي المتغيرات الدولية بالبحر الأبيض المتوسط وخطورة هذه الثورة على مصالح المغرب مما جعل من سلاطين المغرب ينهجون سياسة متزنة مع القوى الأوروبية خصوصا فرنسا النابليونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق