السبت، 2 مايو 2015

تاريخانية مونتسكيو أم تاريخانية العروي؟ أو في الحاجة إلى استحضار تاريح الرومان د.الطيب بياض





لم يكن اختيار مونتسكيو، المؤسس الحقيقي لعلم السياسة حسب عبد الله العروي، للنبش في تاريخ الرومان محض صدفة، بل استجابة لهواجس زمانه المحكومة أساسا بانشغاله بما آلت إليه فرنسا بعد مرور أزيد من نصف قرن من حكم لويس الرابع عشر، المطبوع، من وجهة نظره، بفردانية مطلقة، ومزج مصلحة أسرته بمصلحة الدولة، ومحاولته توحيد العقيدة والقضاء على كل ما هو غير مسيحي كاثوليكي، وإخضاع الكنيسة الفرنسية والدوران في فلكها. فجاء بحث مونتسكيو في تاريخ الرومان محكوما بالرغبة في المقارنة بين المسارين من جهة، وباحثا في تجربة روما عن نموذج بديل لواقع غير راض عنه، خاصة في تبني سياسة وطنية غير أسرية ولا دينية، والإيمان بأن لكل دولة مجال وحدود معينة، ومن ثم ضرورة تبرير المصلحة المادية المحفزة على التوسع من جهة أخرى.
وبذلك فبحث مونتسكيو في تاريخ روما هو، في نظر العروي، بحث في مفهوم السياسة العصرية، فـ Charles Louis de Secondat المعروف بمونتسكيو 1689-1755 الذي عاش عهد لويس الرابع عشر ومطلع حكم لويس الخامس عشر بتفاعلات عهديهما، وهو الأفاقي الطارىء على باريس من ضواحي بوردو، والمتشبع بالفكر الدستوري والسياسي الأنجليزي، والمنحدر من طبقة الخاصة التي كانت ترى في الاستبداد آفة للملكية، والمتزوج بسيدة بروتستانتية، كان يمثل بالأساس عقل أوربا القرن الثامن عشر أو أوربا العقلانية؛ فقد كان يرى في التوسع المفرط كما في فرض وحدة العقيدة مقدمات لانهيار الدولة، وتسائل عن علاقة كل قانون/ دستور/ شريعة بالعوامل المتواجدة من أخلاق وعقيدة وذهنية. فكان تاريخ روما حقلا للتجربة بالنسبة لهذه الانشغالات، مع حرص دائم لمونتسكيو على عقد العديد من المقارنات بين نظامي الحكم في فرنسا وأنجلترا، وبين الأنظمة الشرقية الاستبدادية والغربية الجمهورية، وبين روما الوثنية وروما المسيحية، وبين روما المسيحية وبيزنطة المسيحية، وبين الملكية المقيدة والملكية المطلقة، وهي مقارنات وتمايزات فصل القول فيها لاحقا في كتابه روح القوانين، فكان طبيعيا أن يواجه بامتعاض كنسي دفعه إلى تكريس سنوات من حياته دفاعا عن هذه الأفكار.
بعد تقديم عبد الله العروي للكتاب الذي اهتم بترجمته لمونتسكيو، وعرضه لدواعي تأليف هذا الكتاب وسياقاته، عمد إلى مقارنة طروحات مونتسكيو بأفكار أقرانه في الموضوع وهما مكيافلي وابن خلدون. فالأول قارن بين الحكم الأميري/ الفردي والحكم الجمهوري/ الجماعي وكان همه الأول هو كيف تؤسس دولة لكي تكون، أي أنه نَظَّرَ لنموذج الحكم. أما الثاني، فكان همه المعلن هو منهاج تمحيص الأخبار أي التمهيد لسوسيولوجية العلم المساعد على فهم التاريخ. وتسائل العروي هل توسع ابن خلدون في فهمه ومقارنته؟ منبها إلى أنه إن لم يكن من حقنا أن نؤاخذه بما جاء بعده، فإنه من حقنا مؤاخذته على عدم استحضار ما قبله؛ أي أمهات الكتب في التاريخ والسياسة عند الإغريق والرومان حتى يوسع دائرة مقارناته التي اقتصرت على العرب والفرس أو العرب والبربر. وإن رأى في تمييزه بين حكم مدني وحكم شرعي، وتنبيهه إلى قيمة العمران شجاعة وبراعة اتسم بها الفكر الخلدوني. وفي المقابل، فإن عدم اطلاع ابن خلدون على كتب الفكر السياسي اليوناني والروماني التي أرخت لنجاح النظام الجمهوري، وكانت منطلقا ومرجعا للفكر السياسي الغربي، ومساعدة له على تحقيق التراكم لدى الغرب في هذا المجال، كان باعثا ليس على نفوره، إسوة بآخرين، من النظام الجمهوري، بل سببا في محدودية الفكر السياسي العربي المفتقد لاطلاع مباشر وعميق على التراث الإغريقي والروماني والمكتفي بترجمات المسيحيين العرب التي مرت عبر السريانية، واتسمت بالانتقائية وإقصاء كل ما هو جمهوري وغير مسيحي في هذا الثرات.
يلتقي فرسان الفكر السياسي الثلاثة مونتسكيو، ومكيافلي وابن خلدون عند سؤال واحد: هل يمكن إصلاح ما أفسدته السياسة؟ ويتفاوتون في درجة تشاؤمهم ومدى قدريتهم؛ فبينما قال مكيافلي بالنصف، التقى ابن خلدون مع مونتسكيو في استحالة الإصلاح، والسبب هو تبدل الأحوال الذي ينشأ عنه تغيير في أولويات القيم، ومن هنا ضرورة إحداث القطائع أخذا بعين الاعتبار تغير الظروف. فالقدر إذن مجسد في الذات وليس طارىء عليها، ومن هنا دعوة الثلاثة إلى ما أسماه العروي بالإستئناف عوض الإصلاح. ويشهد التاريخ لمونتسكيو قوله إنه إذا طردت دولة من التاريخ فإنها لا تسترجع ما ضاع منها أبدا.
عاد العروي في خاتمة عرضه إلى الإفصاح عن هواجسه (تاريخانيته)، إذ يؤكد أنه لم يحصل أي تفكير في خصوصية النظام الروماني واليوناني عند المفكرين العرب والمسلمين عكس ما حدث في الغرب بتفريعاته الثلاثة الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، وأن ما قرأوه في الواقع كان تاريخ أعداء روما وليس تاريخ روما، ومن ثم دعوته إلى تأمل تاريخ روما من خلال فهم أحد رواد الفكر الغربي وكيف وظفه لفهم مجريات عصره.
جاء عمل العروي، يقول عبد الأحد السبتي الذي أدار هذه الجلسة، لإعادة الاعتبار للترجمة كقراءة وكتابة وتفكير، مقاربة تاريخانية لمونتسكيو محكومة بهواجس عصره الحاضر. وبذلك فالعمل ذو أزمنة ثلاثة، حسب نفس الباحث، الزمن الروماني وزمن مونتسكيو وزمن العروي. فومنتسكيو خصب أفكارا في كتابه: Considérations sur les causes de la grandeur des romains et de leur décadence سنة 1734، وهو موضوع ترجمة وتأمل العروي، وعاد سنة 1748 ليطورها في مؤلفه روح القوانين. فيما طرح العروي أفكارا في مؤلفه من ديوان السياسة وعاد ليتأملها ويدعو لتأملها مع مونتسكيو في ضوء التجربة الرومانية.
وبذلك تكون هذه المحاضرة التي احتضنها مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط يوم 5 نونبر 2010 قد أعادت إلى دائرة النقاش والتأمل موضوعا يقع على خط التماس بين السياسة والتاريخ. وإن كانت المناقشة اقتصرت على سؤال واحد لم يبتعد عن الإطار الأكاديمي، فإن زمن المحاضرة كان له دوره في هذا الشأن؛ فربيع التحرك العربي لم يكن قد أزهر بعد لتتفح معه ورود أسئلة ربما كانت جزءا من هواجس غير معلنة لصاحب الترجمة والتأمل لكتاب لم يكن مصادفة أن يتم استحاضره في هذا الوقت بالذات.
P.-S. ملحوظة: جاءت محاضرة عبد الله العروي، "تأملات في تاريخ الرومان"، موضوع هذا العرض، قبيل صدور : مونتسكيو، "تأملات في تاريخ الرومان. أسباب النهوض والانحطاط"، ترجمة عبد الله العروي، بيروت / الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق