السبت، 2 مايو 2015

المجتمع والأزمات الديموغرافية في تاريخ المغرب في القرن الثامن عشر مساهمة في الديموغرافيا التاريخية د. محمد حالي




 موضوع  البحــث:
* يتناول هذا البحث الإطار الاجتماعي، الذي كانت تجري فيه الحياة اليومية
العاديـة للإنسان المغربي في القـرن الثامن عشر، وخصوصا خلال الفترة ما بين
(1727-1757)
المضطربة،*
وما يتصل بذلك الإطار من مراكز أولية، وخلايا أساسية للتنظيم الاجتماعي
والاقتصادي للمجتمع المغربي، بما فيها الأسرة والقبيلة والمدينة، والتي درسناها
كخلايا ديموغرافية أولية وكتنظيمات اجتماعية، كانت تحتضن الأحداث اليومية التي
شكلت سمات التاريخ الديموغرافي للبلاد، كما كانت هذه البنيات، تتعرض لهزات
ديموغرافية عنيفة إبان الكوارث الديموغرافية التي شهدتها الفترة التي اتخذناها
إطارا زمنيا للموضوع، بما فيها من حروب الفترة، ومجاعاتها وأوبئتها، وخصوصا
مجاعة (1737-1738) وطواعين منتصف القرن الثامن عشر، وزلزال نونبر 1755.
غير أننا لم نقف طويلا عند خصوصيات كل كارثة من هذه الكوارث،  وآثارها في
التاريخ الديموغرافي والاجتماعي والاقتصادي للمغرب خلال الفترة المدروسة،
لانشغالنا بوضع خط عام رابط بين تلك الأزمات، والآثار المترتبة عنها، وكيف
واجهها المجتمع المغربي آنذاك.
وقد فرض علينا هذا التوجه، دراسة البنيات الاجتماعية والديموغرافية والمجالية
الأساسية، وما يتصل بها من ظروف العيش والقانون السكاني السائد في المجتمع
المغربي آنذاك، كما لم نغفل دور الأقوات لصلتها الوثيقة بالمجاعات. ومسألة
العدوى وما كتبه المعاصرون حولها من أدبيات . وفي أثناء ذلك حاولنا الوقوف على
الشروط المعيشية والظروف الصحية للسكان، لعلاقتها الوطيدة بالوفيات سواء في
مستواها العادي، أو الاستثنائي، كمحاولة للمساهمة في رسم الخطوط العريضة لسمات
التاريخ الديموغرافي لمغرب القرن 18. والقضايا التي ناقشناها في الفصلين الأول
والثاني، هي في منظورنا بنيات طويلة ذات حضور شبه دائم في التاريخ الاجتماعي
والاقتصادي في المغرب من القرن 16، حتى أواخر القرن 18، رغم اتصالها بمغرب
النصف الأول من القرن 18 بخصوصيات متعددة. أما في الفصل الثالث فقد عالجنا
الأزمات الديموغرافية وفق مقاربة تركيبية، في إطار ظرفية تاريخية قصيرة
ومضطربة، دأب المؤرخون على نعتها بأزمة الثلاثين عاما في تاريخ المغرب في القرن
18.
1-   المصـــادر  والمنهـــج:
جمعنا لإنجاز هذا البحث نصوصا متنوعة، مغربية وأجنبية يمكن تقسيمها إلى
المجموعات الثلاث التالية:
أ- المصادر المغربية تنقسم إلى مصادر مخطوطة وأخرى مطبوعة.
* المصادر المخطوطة: يتعلق الأمر بمجموعة من المخطوطات التي طالعناها في
الخزانة الحسنية، أو في الخزانة العامة بالرباط خلال صيف – خريف 2001م/1422هـ،
وتهم تآليف إخبارية وتراجم مخطوطة " كالروضة السليمانية "، و " الدر المنتخب "،
و " تذكرة المحسنين "، و " إتحاف المطالع " و " الابتسام عن دولة ابن هشام "،
وتقاييد تاريخية مختلفة مستقلة، أو ضمن مجاميع مخطوطة. ويهم الشق الثاني من هذه
المصادر المخطوطة أدبيات المساغب والطواعين مثل " أقوال المطاعين في الطعن
والطواعين " وتقاييد ورسائل وأجوبة حول الطواعين والمساغب كرسالة " سلك الدرر "
لابن عجيبة، أو " جواب عما يقع في زمان المسغبة من كثرة السؤال " لمحمد بن أحمد
الدلائي، وغير ذلك مما يرد ضمن البيبليوغرافيا النهائية للبحث.
* المصادر الإخبارية المطبوعة: ونعني بها تواريخ: الريفي والقادري والضعيف
الرباطي وأبو القاسم الزياني والكنسوسي والناصري وابن زيدان وداود والمختار
السوسي، وآخرين، إضافة إلى النصوص اليهودية كالتي نشرها الباحثGeorges Vaja.
ب- المصادر الإخبارية الأجنبية: وتخص نصوصا كتبها أجانب عاشوا في المغرب مدة
معينة كرواية الأسيرة الهولانديةMaria Ter Meetelen  أو كتاب القنصل الفرنسيDe
Chénier
، أو تقارير الرحالة الذين زاروا المغرب في النصف الأول من القرن 18
كالإنجليزيJohn Braithwaite ، أو الذين زاروه خلال النصف الثاني من القرن
المذكور كالجراح الإنجليزيW. Lemprière  أو الرحالة البولونيJan Potocki ،
والذين ينبغي التعامل مع نصوصهم بحذر شديد.
ج- الدراسات والمراجع المغربية والأجنبية المختلفة:
استفدنا هنا بصفة خاصة من النتائج التي تواصل إليها عدد من الباحثين والمؤرخين
المغاربة الجادين الذين شقوا طريق البحث التاريخي وأناروا سبله، بكتاباتهم ونخص
بالذكر هنا أعمال العروي، التوفيق، الموادن، أكنينح وأضرابهم والتي مكنتنا من
تكوين رؤية علمية تاريخية لقراءة الكتابات الأجنبية حول المغرب، وبالأخص تلـك
التي كان يوجهها هاجس ما، كأعمالR. Montagne  وE. Gellner  وD.M.Hart ورجعنا
أيضا إلى دراسات أجنبية لازالت تحظى بالاحترام العلمي في مجال البحث في تاريخ
المغرب، ونعني هنـا أعمـالJ. Berque  وP. Pascon . كما استفدنا من مقالات
مختلفـة وبالأخـص التي نشرهاJ. Célérier  وG. Lazarev و   B. Rosenberger و H.
Triki
و R. Montagne  و A. Adam  و Dr Renaud وE. Laoust وغيرهم.
ونشير أيضا إلى مؤلفات عامة لا تخلو من أهميـة وفـي مقدمتهـا مؤلفات F. Braudel،
وBen Ali Driss، وM. Kenbib، وR. Lourido-Diaz.
وقد حرصنا كل الحرص، أثناء تعاملنا مع مختلف هذه النصوص المصدرية والغير
المصدرية، المغربية والأجنبية على استحضار سياقها العام والخصائص المميزة للصنف
الاستغرافي الذي تنتمي إليه.
فالمصادر الإخبارية المغربية، تشترك عموما، في تضخيم ما هو استثنائي كالحروب
والمجاعات والأوبئة، والاهتمام الزائد بتفاصيل بعض الأحداث السياسية والعسكرية،
وغياب التقدير الكمي الدقيق في معظم الحالات. أما المصادر الإخبارية الأجنبية،
فكان يصعب على أصحابها رؤية الحياة المغربية رؤية صحيحة، لعدم قدرتهم على
فهمها، أو التخلص من أطرهم المرجعية، وخلفياتهم، فجاءت كتاباتهم غير موافقة
للواقع التاريخي المغربي، ومتميزة بالمغالاة ومجانبة الحقيقة، كما كانت مغلفة
بغلاف من التعصب لمقوماتهم الثقافية والدينية والسياسية، وقد ورثت بعض كتابات
الأجانب في القرن 19 والقرن 20 حول المغرب، بعض هذه الصفات، وخصوصا كتاباتR.
Montagne
وH. Terrasse وE. Gellner وD.M. Hart.
وقد حاولنا عند تعاملنا مع هذه النصوص، المختلفة والمتنوعة المشارب، تطبيق منهج
المقابلة والمطابقة بين مختلف الروايات، للخروج بنظرة أقرب إلى الواقع التاريخي
للمجتمع المغربي، بعيدا عن النظرة الأحادية الجانب والتحليل الضيق، مستهدفين
تحقيق تلك الروايات، وتجاوز النظرة الأجنبية المشوبة بالمغالطات، وتخطي سلبية
الحوليات التاريخية المغربية، التي اهتمت بالأحداث السياسية والعسكرية، وعزفت
بشكل يكاد يكون كليا عن التأريخ لتطور البنيات الاجتماعية والديموغرافية
والاقتصادية لمغرب القرن 18. وحرصنا في ذلك كله على عدم التسرع في إصدار
الأحكام النهائية، والمبالغة في الاستنتاجات التي لا تدعمها الروايات التاريخية
الصحيحة.
2-   بنيــــــة  البحـــــث:
قسمنا هذا البحث المتواضع إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. وقد حاولنا أن نتعرض
فيه بالدرس والتحليل، لقضايا اجتماعية واقتصادية وفكرية، اعتبرناها بمثابة
أساسيات لا غنى عن بحثها، قبل محاولة فهم الأزمات الديموغرافية التي ضربت
المجتمع المغربي في القرن 18. وذلك لكونها بنيات ديموغرافية في حد ذاتها
كالأسرة والقبيلة والمدينة. أو لأهميتها في تسهيل عمل المجاعات والأوبئة،
وخصوصا مستوى العيش وأنماطه، وإنتاج، وادخار الأقوات والوضع الصحي. أو لدورها
في التكيف مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي والانهيار الديموغرافي الذي ينجم عادة
عن تلك الكوارث الديموغرافية، مما استلزم على المجتمع المغربي تكييف نظامه
الإنجابي مع القوانين الطبيعية التي كانت تحكم الوفيات، بحثا عن التوازن
المفقود في هذا المجال. كما عملنا على الوقوف، على أسباب الأزمات الديموغرافية
ومناقشتها، وحصر مظاهرها السكانية والمجالية، وتحديد بعض نتائجها العامة، دون
إغفال رؤية المعاصرين لها ومواقفهم الفكرية منها، وخصوصا ما يتعلق بالطواعين
التي بصمت الذاكرة الجماعية للإنسان المغربي، والمخيال الجماعي للسكان، بتصورات
وسلوكات خاصة، همت بشكل خاص موقف الإنسان المغربي أمام العدوى، والآثار المدمرة
للمساغب والطواعين .
خصصنا الفصل الأول لأشكال التنظيم الاجتماعي وعلاقتها بالأزمات الديموغرافية،
وقد حاولنا فيه مناقشة، الأدبيات المتراكمة حول الأسرة والقبيلة المغربية
والحاضرة، ومواجهة هذه البنيات الاجتماعية والديموغرافية والمجالية للكوارث
الديموغرافية المختلفة، للنصف الأول من القرن الثامن عشر، منتبهين إلى أهمية
علاقاتها البينية، وعلاقتها بالدولة المغربية.
وتناولنا في الفصل الثاني نمط عيش السكان وتكاثرهم، الذي ركزنا فيه على دراسة
السكن والسكان وأسلوب معيشتهم وإنتاجهم الفلاحي وتغذيتهم ووضعهم الصحي، وبعض
معالم تكاثرهم، التي حاولنا في إطارها، دراسة الزواج والولادات والوفيات،
وربطها بظرفية المغرب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال الفترة المدروسة.
أما الفصل الثالث فقد عالجنا فيه الأزمات الديموغرافية بشكل عام من حيث أسبابها
ومظاهرها وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأدبياتها، في المغرب في
الفترة المدروسة.
استنتاجات عـامــــة:
 خرجنا من هذا البحث بالخلاصات التركيبية التالية:
* إن دراسة الأزمات الديموغرافية، وأثرها على تطور بنيات المجتمع المغربي في
النصف الأول من القرن الثامن عشر، اقتضت في منظورنا القيام بمسح اجتماعي شامل،
لمعرفة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسكانية السائدة آنذاك، والتي شكلت
بنيات استقبال لتلك الأزمات الديموغرافية، فكان لابد من تسليط الأضواء على تلك
البنيات في أفق فهم أفضل للآثار الناجمة عن تلك الأزمات.
* تبين لنا من خلال دراسة الأسرة، أن هذه الخلية الأولية للتنظيم الاجتماعي
والاقتصادي للمجتمع المغربي، لم تكن مبنية فقط على روابط النسب وأواصر القرابة
الدموية بين أفراد منحدرين من أب وأم مشتركين. بل إن هذه الأسـرة
النووية/الزواجية/الأصل كانت تتسع وتمتد عموديا وجانبيا، لتضم أكبر عدد من
الأفراد، فكان يتعايش فيها جيلان أو أكثر تحت سلطة " الأب " الأكثر سنا وثروة،
زيادة على أنها كانت تدمج أفرادا طارئين عليها، قادمين من عائلات ومن آفاق
أخرى، ولم يكونوا بالتالي منتسبين إلى شجرتها النسبية، بل كانوا يتبعون لها
بحثا عن الحماية، أو في إطار تعاقدي، يمكنها من استعمال قوة عملهم في دعم قوتها
الإنتاجية. ومن ثم كانت العائلة الكبرى هي النمط المميز للتنظيم العائلي في
المجتمع المغربي في القرون الماضية. وكانت كوحدة إنتاج وتضامن ودفاع قائمة على
روابط القرابة والتضامن، وكان امتدادها وكثرة أتباعها وأفرادها عنصر قوة، في
مجتمع يتميز، بضعف المستوى التقني، وبصعوبة الظروف الطبيعية، وبالتالي سيادة
اقتصاد الكفاف، وأيضا بتعاقب الكوارث الديموغرافية، التي كانت تسبب انهيارا
ديموغرافيا، في وسط العائلة بل وتهددها بالانقراض والتفكك، فكانت مهددة بالتالي
في جوهرها، لذلك فإن تكثير النسل كان القاعدة الغالبة على السلوك الإنجابي، في
العائلة المغربية في القرون السابقة للاتصال بين المجتمع المغربي، والاقتصاد
الرأسمالي، وهو الاتصال الذي اتخذ طابعا خاصا خلال النصف الثاني من القرن 18،
والذي قد يكون وراء بداية مسلسل تفكك العائلة الكبرى، وما يتبعه من آثار سلبية
على الإنتاج الفلاحي بالخصوص .
* للقبيلة أهمية خاصة في التاريخ الديموغرافي لمغرب النصف الأول من القرن 18،
لا تقل عن أهمية العائلة، ذلك أن الأزمات الديموغرافية التي شهدها المجتمع
المغربي فيما بين (1727-1757) كانت تحدث فراغا سكانيا في السهول الشمالية
الغربية، وكانت القبائل تستغل ضعف السلطة المركزية لإحداث اضطرابات في تعمير
المنطقة، والتسرب البطيء من الجبال نحو السهول المذكورة.
اهتم باحثون كثيرون بالقبيلة المغربية انطلاقا من انشغالات مختلفة وتبين نتائج
أعمالهم صعوبة في دراسةهذه البنية، ويفرض هنا العامل التاريخي نفسه، إذ تنبغي
دراسة كل قبيلة كحالة خاصة، عرفت تبدلات وتغيرات في الزمان والمجال، كما عرفت
تجديدا بشريا مستمرا، مما يجعل دراسة الخريطة البشرية للمغرب، إحدى الإشكالات
الكبرى، التي تميز التاريخ الديموغرافي للبلاد. ومن هنا أيضا تقل أهمية النسب
المشترك في تعريف القبيلة، كما كشفت عن ذلك أعمـال J. Berque، وP.
Pascon
والتوفيق، وباحثين آخرين. ومن المعلوم أن هذه "الأسطورة النسبية "،
إضافة إلى
انعزال القبيلة وهامشيتها، وخروجها عن نفوذ المخزن، قد شكلت بدرجات متفاوتة،
أبرز الأسـس التـي قامـت عليهـا الأطروحـة الانقسامية عندE. Gellner، وD.M.
Hart
، وأفكارR. Montagne في حين بين الباحثون المغاربة في تاريخ القبيلة، أن
الانعزال التام والخروج الكلي، للقبيلة النائية عن سلطة المخزن، تكذبه الوقائع
التاريخية، وتجعله مسألة في غاية النسبية، ومن ثم فإن الأطروحات المؤسسة على
هذا البناء الهش، تبقى مجرد افتراضات مجانبة للحقيقة التاريخية، ويتضح من
دراستنا للمؤسسات القبلية وهياكلها، صعوبة إيجاد تصنيف موحد ينطبق على كل
القبائل، نظرا لاختلاف هذه التقسيمات التي تخص الدواوير والفرق والفخذات
والأرباع وغيرها، من قبيلة لأخرى، من حيث حمولتها الديموغرافية، وتنظيمها
ووظائفها.
وبخصوص القبيلة وظرفية أزمة الثلاثين سنة، كشفت النصوص المصدرية التي رجعنا
إليها، أن الحروب المنسوبة إلى هذه الفترة، لم تكن لتخلف أزمة ديموغرافية
حقيقية، في صفوف القبائل، غير أنها لعبت دورا معينا في عرقلة الإنتاج
والمبادلات، ومن ثم سهلت دور المجاعات، كما قد تكون الاضطرابات قد سهلت انتقال
عدوى الطواعين التي ضربت البلاد في هذه الفترة. مما كان يسبب فراغا ديموغرافيا
في السهول الشمالية الغربية، والذي كان الزحف البطيء لسكان الصحراء والجبال،
يعمل على تعويضه منذ القرن 16م.
* كانت العلاقة بين القبيلة والمدينة تتميز في تاريخ المغرب عامة، وفي النصف
الأول من القرن 18 خاصة، بالتعارض والتكامل. فقد كانت المدينة في نظر القبيلة
مركزا للجابي والتاجر والمرابي والملاك العقاري، الذين يستغلون ثرواتها،
ويفرضون عليها معاملاتهم الغير المتكافئة، مما كان يؤدي إلى فورات قبيلة تستهدف
نهب ثروات المدن ومحاصرتها، خصوصا، إبان فترات الضيق كالمجاعات، غير أن القبائل
كانت مضطرة إلى التعامل مع أهل المدن، والتبادل معهم لذلك، كانت تحرص على ربط
علاقات التكامل والتبادل مع المدن، وهو ما بيناه من خلال نموذج مدينة فاس
وقبائل سايس البربرية خلال الفترة المدروسة.
* كانت المدينة المغربية خلال القرن 18، وبالأخص خلال الفترة المدروسة، ضعيفة
ومتوقفة على ما قد يصدر من المخزن المركزي – رغم ضعفه آنذاك – من قرارات، فرغم
ما قد توحي به معارضة فاس لبعض سلاطين الفترة من قوة، فإنها كانت تستسلم
لإرادتهم، وكانت تتحمل غرامات ومصادرات مختلفة في ثروات أثريائها، التي تم
احتجانها في كنف الدولة وحمايتها، وبذلك فإن نمو المدينة المغربية آنذاك، أو
تراجعها، وانكماشها في كافة المجالات، كان ناجما عن ارتباطها الأصلي بالدولة،
فعندما ضعفت هذه الأخيرة فيما بين (1727-1757) كان من الطبيعي أن تضعف المدينة
أيضا، وينعكس ذلك سلبا على تعميرها وأنشطتها.
ومن دراستنا لموقف المدينة إزاء الأزمات الديموغرافية للفترة، تبين لنا أن
المجاعات والأوبئة، كانت أكثر تأثيرا، في ديموغرافية المدينة المغربية آنذاك،
مع ملاحظة أن الحروب سهلت عمل المجاعات والأوبئة.
* من خلال دراستنا لظرفية النصف الأول من القرن 18، وعلاقتها بالإنتاج الفلاحي،
اتضح لنا أن عدة عوامل تظافرت لتخلق شروطا غير ملائمة لحصول إنتاج فلاحي وفير،
وبالتالي فإن ندرة الأقوات وقلتها، كانت هي السمة الغالبة على هذه الفترة. وكان
هذا الوضع يسهل ظروف انتشار الأمراض والأوبئة، نظرا لنقص الغذاء، وحالة الجوع
المزمن، الذي فرض على السكان، نتيجة التقلبات المناخية، والآفات الطبيعية
المختلفة، التي كانت تضر بالمحاصيل والماشية، وتأخر المستوى التقني، الذي كان
يحول إلى جانب قلة السكان، دون توسيع المجال الفلاحي أو استغلاله بشكل مكثف.
إضافة إلى سيادة نمط العيش القائم على الترحال في السهول، وظروف الاستغلال
الجماعي، التي منعت المبادرة الخاصة الكفيلة، بتطوير القطاع الفلاحي، كما كانت
الكوارث الديموغرافية التي عرفتها هذه الفترة، من مجاعات وأوبئة وحروب، تساهم
أيضا، بدرجات متفاوتة، في تضييق المجال الزراعي.
ورغم لجوء الإنسان المغربي إلى ادخار الأقوات، وحسن تدبير ما كان يتحصل بيده
منها في سنوات الوفرة، ورغم بساطة عاداته الغذائية، وحرصه على عدم وسق الفوائض
الغذائية في سنوات المحاصيل الجيدة، فإن تتابع موسمين جافين أو أكثر كما حدث
خلال مجاعتي (1721-1724)، (1737-1738)، وتدهور الظروف الأمنية فيما بين
(1727-1757)
، جعل الادخار، وإجراءات الاقتصاد في الغذاء، غير كافية لمواجهة
النقص المطروح على مستوى الأقوات، إذ كان الأمر يتطلب تقدما تقنيا، على غرار ما
عرفته بوادي غرب أوربا في نفس الفترة، ونموا ديموغرافيا أيضا، وهو ما لم يحدث
في مغرب القرن 18. وهنا نخلص إلى أن مشكل الأقوات كان بنية فاعلة في تاريخ
المغرب، وفي النصف الأول من القرن 18 على وجه التحديد.
* وفي ارتباط وثيق مع مسألة إنتاج الأقوات، وتدبيرها، ونظرا لقلة الإنتاج
الفلاحي نتيجة نقص السكان، ولتأخر المستوى التقني، وصعوبة وتقلب المعطيات
المناخية، وخصوصا تعاقب فترات الجفاف والمجاعات والأوبئة، التي كانت تؤدي إلى
منع كل تراكم أو نمو ديموغرافي أو تقني، وبالتالي كانت تسبب في تراجع المجال
الزراعي من حين لآخر، فإن الإنسان المغربي كان مجبرا، على الاكتفاء بالقلة في
الغذاء، وبالبساطة في أمور معيشته، لذلك كانت التغذية عند عامة الشرائح
الاجتماعية، ذات أساس نباتي، ولم تكن مائدة العامة، تعرف غذاء متوازنا وأقرب
إلى تلبية مختلف حاجيات الجسم من الفيتامينات، ومن البروتين الحيواني إلا
استثناء، وبالضبـط عند تعاقب سنوات الوفرة في الإنتاج الفلاحي. إلا أن فترة
(1727-1757)
التي عرفت حروبا شبه متصلة، وتعاقب سنوات الجفاف، والكوارث
الطبيعية المختلفة كانت تحكم على الوضع الغذائي لعامة الناس في البوادي والمدن،
بأن يكون مهزوزا، وبالتالي كان الإنسان المغربي، يعيش مختلف مظاهر سوء ونقص
التغذية، إن لم نقل أن هاجس الجوع كان يلازمه باستمرار، ليتحول إلى كارثة
ديموغرافية عند تعاقب أكثر من موسمين فلاحيين جائحين.
* كان لباس العامة وسكنهم لا يخرجان عن قاعدة البساطة، والاكتفاء بما هو ضروري،
فاللباس كان في الحالات العادية، يصنع من مواد محلية، وخاصة من الصوف، وكان
يميل إلى الاقتصار على حائك واحد في الشتاء، وآخر في الصيف، سواء عند الرجال أو
النساء، مع إضافة قطع أخرى كالقميص والجلابة والسراويل وكذلك النعال، كلما سمح
الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفرد بذلك، لكن عامة الناس وفقراءهم كانوا يقتصرون
على قطعة واحدة، كما كانوا يمشون حفاة في بعض الأحيان.
أما السكن فإنه كان متنوعا حسب المعطيات الجغرافية وأنشطة السكان وأنماط عيشهم
ووضعهم السوسيو-اقتصادي أيضا، وعموما فإن سكن عامة الناس سواء كان خيمة أو
نوالة أو منزلا مبنيا بمواد صلبة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار نوعية الأثاث الذي
كان يحتويه ووظائفه، فإننا نخلص إلى أنه كان جزءا من شروط عيش صعبة، تكمل ما
قيل عن الغذاء واللباس، ولا تكتمل صورتها، دون ربطها بسمات النظام الديموغرافي
السائد في المجتمع المغربي خلال القرن 18.
* اتضح لنا من خلال تركيب الإشارات التي توفرت لنا حول الزواج والولادات
والوفيات في مغرب القرن 18، أنه عكس ما كتبه الرحالة والمؤلفون الأجانب حول
ظاهرة تعدد الزوجات، فإن قاعدة الزواج بامرأة واحدة، كانت هي المعمول بها لدى
أغلبية المجتمع، وأن تعدد الزوجات كان نادرا، وكان سائدا لدى أقلية من الأعيان
والخاصة، في البادية والحاضرة على السواء، وما قيل عن الطلاق وسهولته وتكراره
يصبح افتراء مماثلا. وكذلك، لم يكن الزواج يتم في سن مبكر، على النحو الذي وصفه
البعض، باستثناء بعض الأوساط اليهودية التي كانت عندها زوجات في الثامنة من
العمر، وأمهات في الثانية عشر – كما أوضح التوفيق بالنسبة لساكنة ملاح دمنات
إلا أن الخصوبة كانت مرتفعة، وكثرة الولادات هاته، وتفضيل المواليد الذكور،
تعود إلى الحاجة الماسة في هذا المجتمع المتأخر تقنيا، والذي ظل يشكو نقصا
سكانيا، وحاجة إلى السواعد العاملة، مما كان يدعم الإنجاب، والأسرة الكبيرة.
وقد لعبت الوفيات المرتفعة دورا كبيرا في ارتفاع الولادات، ذلك أن الوفيات،
كانت تؤدي إلى انقطاع بعض الأنساب، والأعقاب، خصوصا إذا كانت الذرية قليلة، فإن
الأبناء كانوا يتوفون في حياة آبائهم أحيانا، أو بعدهم بقليل فينقطع عقبهــم.
لم نتمكن من دراسة الولادات والوفيات دراسة إحصائية دقيقة، ومع ذلك وقفنا على
أهم خصائصهما، والتي كانت تميز ديموغرافية المغرب خلال القرن 18 كبلد ما قبل
رأسمالي، كانت ساكنته تتعرض للأزمات الديموغرافية، المتمثلة في المساغب
والطواعين، والتي كانت تسبب في دورات ديموغرافية تبدأ بولادات ووفيات منخفضة
نسبيا، وعندما ترتفع الخصوبة، لتميل نحو تحقيق فوائض ديموغرافية، من شأنها أن
تنتهي إلى نمو مضطرد للسكان، فإن الكوارث الديموغرافية الطبيعية المشار إليها،
كانت ترفع الوفيات بشكل فجائي لتأتي على الفوائض السكانية، وتخلق ثغرة في
المنحنى العام لتطور السكان، وعندما تمر المسغبة وينقطع الوباء تنخفض الوفيات،
وترتفع الخصوبة لترميم الثغرة الديموغرافية السابقة كما قد تساهم الهجرات
الوافدة بدورها في هذا الترميم.
* لا توفر المصادر المغربية والأجنبية التي اطلعنا عليها، غير إشارات متفرقة
وجزئية، وغامضة أحيانا حول أسباب الكوارث الديموغرافية التي شهدها المغرب في
النصف الأول من القرن 18، ومظاهرها الديموغرافية ونتائجها وآثارها في مختلف
المجالات، ومع ذلك عملنا على مقابلة مختلف الشهادات، ومقارنتها، ومحاولة الخروج
بنظرة تركيبية، وبصورة عامة، حول تلك الكوارث ومختلف الآثار الناجمة عنها، في
مجال الديموغرافيا، والتعمير والاقتصاد والحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية.
* كانت مجاعات النصف الأول من القرن 18 كمجاعة (1737-1738) تنتج عن تتابع
موسمين فلاحيين جافين أو أكثر، وكانت ظاهرة الجفاف الجزئي تتزامن مع مجيء أسراب
الجراد من الجنوب، والتي كانت تأتي على المزروعات، وتخلف إرثا ثقيلا للموسم
الفلاحي المقبل. ولم تكن محاصيل السنوات الخصبة تنجو من آفات طبيعية أخرى
كالفيضانات والفأر، أو من الغارات وأعمال النهب الناجمة عن حروب الفترة، زيادة
على فقر عامة الناس، وتأخر التقنيات الفلاحية وسيادة الترحال وعدم الاستقرار
ومشكل النقل، وهي كلها عوامل كانت تتظافر إبان القحوط الكبرى لتسهل اندلاع
المجاعة. كما كانت القحوط تتزامن مع الطاعون كما حدث خلال عامي 1159هـ و
1163
هـ. وفي هذه الحالة يصعب التمييز بين ضحايا الجوع وضحايا الطاعون من خلال
الإشارات المصدرية.
* وبخصوص الطواعين التي ضربت المغرب فيما بين (1742-1751) والمعروفة بطواعين
منتصف القرن 18، فإن مصدرها الأول هو الاتصالات مع الجزائر، التي انتقلت إليها
العدوى من بلاد المشرق الإسلامي، والمصادر تستبعد الدور التقليدي، لركب الحجاج
والبوابة البحرية في إدخال الطاعون في 1742 إلى المغرب. وبعد تسربه من شرق
البلاد، عم شمالها ووسطها وجنوبها، ليعرف مرحلة كمون فيما بين (1744-1747)،
وليظهر من جديد في سوس وعبدة في 1747، ليعم كل وسط وشمال البلاد في السنوات
الموالية قبل ارتفاعه في عام 1751. وإذا كان من الصعب تحديد طبيعة هذا الوباء،
فيمكن الحديث عن النوعين المعروفين الناجمين عن جرثومة باسيلYersin  وهما
الطاعون الرئوي والطاعون الدملي، وإن كان النوع الأول هو المعروف تاريخيا في
المغرب. وبصفة عامة فإن الطاعون كان يضرب السهول الغنية والحواضر أكثر من
الجبال والصحراء، وكان يشتد ويخف بحسب مدى ملاءمة الوسط الجغرافي لتكاثر
الوسائط الحيوانية الناقلة للجرثومة المسببة للإصابة. ولم تكن أساليب الوقاية
المتبعة لدى المغاربة المسلمين منهم واليهود كفيلة بحماية الناس من العدوى،
بينما كانت العلاجات المتبعة ترمي إلى بلوع الدمل مرحلة تقيحها، إذ أن الحالات
التي لا تتقيح فيها، كانت قاتلة، بينما كان الأوربيون المقيمون بالمغرب آنذاك
يحتمون من العدوى بالمكوث في منازلهم طيلة مدة الوباء، مما يفسر انخفاض عدد
ضحايا الطاعون المسجل في صفوفهم مقارنة بضحايا المغاربة، عند كل موجة وبائية.
* لا نتوفر على تقديرات دقيقة يمكن الاستناد إليها في دراسة وفيات الجوع، التي
ترتبت عن مساغب النصف الأول من القرن 18، باستثناء ما ورد من عبارات وصفية حول
كثرة عدد الموتى الذين عاينهم محمد بن الطيب القادري بمارستان فاس إبان مجاعة
1721-1724
م، وهلاك 2000 شخص من ساكنة ملاحها سنويا خلال نفس المجاعة. أو ضياع
الفقراء بفاس خلال مجاعة (1737-1738) أكثر من غيرهم، وهلاك 89 ألفا من ضحايا
الجوع بنفس المدينة في رواية، وفي أخرى 80 ألفا على الأقل خلال ثلاثة أشهر من
سنة 1738، من الذين تكفل بهم المارستان. غير أن المصادر تتكلم عن عجز الناس عن
دفن موتاهم بفاس ومكناس، مما يدل على ارتفاع عدد الضحايا، خلال هذه المسغبة،
وبالخصوص في وسط البلاد، أكثر من شمالها وجنوبها. وحسب وثيقة بريطانية، سابقة
الذكر، فإن مجاعة أخرى ضربت المغرب في عام 1740 وقضت على ثلث السكان، وذلك قبل
انتشار الطاعون الجارف لمنتصف القرن.
* فيما يتعلق بضحايا طواعين منتصف القرن 18، رغم أن المصادر تشير إلى بعض أعداد
الضحايا اليوميين في مدن معينة، أو في معسكر مشرع الرملة، فإنها لا تسعف الباحث
في تقدير العدد الإجمالي للضحايا ونسبته إلى مجموع السكان، الذي يظل غير معروف
هو الآخر. ومع ذلك فإن تلك المعطيات تسمح بالقول، أن المدن والمناطق الداخلية،
كفاس ومكناس ومراكش، كانت أكثر تضررا من غيرها من جراء الطاعونين، وبالأخـص،
إبان طاعون (1747-1751) الذي كان أكثر تخريبا من الموجة الأولى (1742-1744).
 * لم تكد البلاد تستريح من هول الطاعونيين، حتى استفاقت على كارثة زلزال نونبر
1755
ولواحقه، الذي يبدو أنه كان أكثر تدميرا في الواجهة الأطلنتية الممتدة من
مراكش إلى فاس وتطوان شمالا، حيث ترد إشارات متعددة إلى الخسائر البشرية
والعمرانية، التي تسبب فيها هناك، إضافة إلى الأراضي الزراعية والماشية
والممتلكات التي أتت عليها أمواج التسونامي التي تسبب فيها، وعموما فإن المصادر
تجعل مدينة مكناس في مقدمة المدن المتضررة من هذه الزلازل إذ فقدت ما يربو عن
22
ألف ضحية في زلازل 18 و19 و27 نونبر 1755. ومن هنا فإننا لا نستبعد أن تكون
عمليات التجديد والبناء، التي تنسبها الروايات الإخبارية، إلى عهد السلطان محمد
بن عبد الله، في هذه المدينة وفي كل الواجهة الأطلنتية المشار إليها، في جانب
منها، محاولة لرأب الصدع، وترميم ما دمره الزلزال المذكور.
* أدت هذه الكوارث المرتبطة بالمجاعات والطواعين والزلازل، إضافة إلى حروب أزمة
الثلاثين سنة، إلى اضطراب التعمير في النصف الأول في القرن 18، وإلى حدوث حركية
سكانية كبرى في المجال. تميزت بصفة عامة بتحرك القبائل الصحراوية المعقلية نحو
الشمال وضغطها على القبائل البربرية الجلية، وخصوصا منها صنهاجة الأطلس
المتوسط، التي زحفت على السهول الشمالية الغربية، كسايس والغرب وتادلة والهضاب
القريبة من الأطلس المتوسط متتبعة آثار قبائل عربية كبني حسن وزعير، ودافعة بها
أمامها في نفس الوقت. وقد منحت اضطرابات فترة الثلاثين سنة والانهيار
الديموغرافي الذي حدث في السهول المشار إليها، نتيجة الكوارث الديموغرافية
الآنفة الذكر، الفرصة السانحة لسكان الجبال لمواصلة زحفهم على السهول المذكورة.
وكان هذا الزحف قد بدأ منذ القرن 14م، واستمر قويا بعد ذلك نتيجة ضغط المعقليين
في الصحراء على جيرانهم كآيت عطا، وبسبب فترات ضعف السلطة المركزية، والكوارث
الديموغرافية المتعاقبة على البلاد، والتي كانت تتضرر منها السهول الشمالية
الغربية أكثر من غيرها من المناطق. وفي العهد الإسماعيلي توقفت هذه الحركة
مؤقتا، ثم تتابعت بعد 1727، وأوصلت قبائل معقلية كبني حسن وزعير، وأخرى بربرية
كآيت يدراسن وكَروان وزيان وآيت يمور إلى السهول الشمالية الخصبة. وأدى تضييق
الجبلين على سكان تلك السهول إلى عدم الاستقرار وإلى تراجع الحياة الزراعية،
وبالتالي إلى اضطراب في التعمير، بعد انتشار أعمال النهب واللصوصية، وانقطاع
الطرق وركود الإنتاج والمبادلات، وسيادة الغزو، ومن ثم المساهمة في تعميق ضعف
السلطة المركزية لاعتمادها الكبير في مواردها المادية وقوتها العسكرية على هذه
المناطق، مما دفع بالسلطان المولى عبد الله إلى الاعتماد على آيت يدراسن ثم
كَروان لموازنة العبيد وباقي العناصر الأخرى.
* لم تكن الهجرة واضطراب التعمير خاصية السهول في هذه الفترة وحدها، بل إن
العديد من المجالات الحضرية فقدت سكانها، وخلت حومات وأحياء منها، نتيجة
الكوارث الطبيعية المختلفة وانعدام الأمن، وانتشار الفوضى واللصوصية الناجمة
عنها، مما ترتب عنه أيضا تدهور الحرف وركودها بعدما كسدت، وتسرب إليها الغش
وإلى العملة، وتراجعت المبادلات التجارية بين الحواضر، وبينها وبين بواديها،
واتخذت العلاقة بين البادية والحاضرة طابع التعارض في معظم الأحيان.
* وإلى جانب النهب واللصوصية، كانت الكوارث الديموغرافية للنصف الأول من القرن
18
، قد أفرزت سلوكات غير عادية كالتسول، الذي شكل نازلة من النوازل الفقهية
التي عالجها العلماء معبرين عن حيرتهم إزاء كثرة المتسولين واتخاذهم من التسول
حرفة وتجارة، وفقدانهم لفضائل المروءة والخصال الإنسانية العليا. ومن ذلك
الجواب الذي كتبه محمد بن أحمد الدلائي المتوفى 1136هـ/1724 حول ما يقع في زمان
المسغبة من كثرة السؤال، والذي انتهى فيه إلى التأكيد على التضامن والإسعاف
لمواجهة الآثار الاجتماعية للمساغب والحد من ظاهرة التسول. وقد لاحظنا فعلا أن
التضامن الاجتماعي كان يتقوى إبان تلك الأوقات الحرجة بين مختلف شرائح المجتمع
المغربي، بل وحتى بين المسلمين وأهل ذمتهم يهود الملاحات. وكان هذا التكافل
يخفف من هول الكوارث، لكنه لم يكن كافيا لتجنيب البلاد والعباد الآثار
التخريبية الناجمة عنها، إذ كانت تنعدم الأقوات ويفتضح الناس، فتظهر عادات
غذائية جديدة، تستهدف أكل كل ما من شأنه، سد رمق الجياع أو إيهامهم بذلك، مما
أدى إلى تفكير البعض في أقوات الشدة ومدى انسجام المضطر مع تعاليم الإسلام
ومقتضيات الشرع.
* كانت الكوارث الديموغرافية تؤدي إلى تجميع الثروات واحتجانها من قبل العناصر
القليلة الناجية من الموت، إما عن طريق الإرث أو عن طريق الشراء، وكان المخزن
نفسه يستفيد من أموال المنقطعين لتغذية موارد بيت المال إثر كل مسغبة أو وباء،
وكانت أسعار المنافع والثروات، بما فيها العقارات، تنهار إبان أوقات الشدة،
فيحتجنها المتمولون الجدد أو الأثرياء القدامى الناجون من الموت، مستغلين اتجاه
كل المدخرات النقدية لدى أغلبية الناس نحو توفير الأقوات أثناء المجاعة، وكساد
المنافع نتيجة الانهيار السكاني الذي ينجم عن الوباء، فتتراكم لديهم الثروات،
لكنها كانت تتعرض للتفكك والزوال، إثر كل دورة ديموغرافية، إذ كانت الأزمات
الديموغرافية تؤدي إلى تفكك الأسر الكبرى، وإلى بداية دورة جديدة في توزيع
الثروات، والحركية الاجتماعية المصاحبة لها.
* أدت الكوارث الديموغرافية التي عاشها المغرب في النصف الأول من القرن 18 إلى
جانب عوامل أخرى، إلى انهيار الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وإلى فراغ واضطراب
ديموغرافي في السهول، التي كانت تعتمد عليها الدولة في تغذية مداخيلها وقوتها
العسكرية، مما تسبب في ضعف السلطة المركزية، والذي تجلى في جانب منه في
الاضطرابـات السياسية التي شهدتها هذه الفترة، وعدم تحكم الدولة في الخريطـة
البشرية للبلاد، كما كان الأمر قبل 1727م أو كما سيصبح بعد 1757م.
* خلفت المساغب والطواعين، التي كانت موضوع هذه الدراسة، أدبيات واسعة تعكس
بصماتها في المخيال الجماعي للناس الذين عايشوها، وعانوا من هولها ومن
انعكاساتها الثقيلة في مختلف المجالات، وكانت هذه التآليف والرسائل والأجوبة،
تتخذ شكل نوازل فقهية، تسترجع أقوال الأوائل والمتقدمين في الموضوع، ولم تكن
تأتي بجديد. وإذا كانت تعطي صورة عن المناخ الفكري والاجتماعي العام السائد،
فإنها لم تقدم معطيات دقيقة من شأنها الكشف عن جوانب ظلت غامضة من تاريخ
المجاعات والأوبئة، في مغرب القرن 18.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أصل هذا المقال ملخص رسالة جامعية أعددتها لنيل دبلوم الدراسات العليا
المعمقة في التاريخ وحدة التكوين والبحث: الديموغرافيا التاريخية بكلية الآداب
والعلوم الإنسانية جامعة محمد الأول بوجـدة برسم السنة الجامعية 2001-2002،
وناقشتها أمام لجنة مكونة من الأستاذين الدكتور نور الدين الموادن والدكتور
مصطفى نشاط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق